أدب الطفولة في العراق بين مدّ الإقصاء وجزر التهميش

• إيمان الغزي – جامعة ذي قار
 
أطفالنا هم زينة الحياة وبهجتها وزُهرتها الدائمة، ولا يوجد مخلوق على الأرض سواهم، نتمنى له الخير والتوفيق والنجاح أكثر مما نتمناه لأنفسنا، فهم قرّة أعيننا وأكبادنا التي تمشي على الأرض، ونجاحهم  في شقّ طريقهم بصورة سليمة ما هو إلا تأكيد لصحة مفاهيمنا وأساليبنا في تنشئتهم وتقويمهم .من هذا المنطلق تبدو أهمية رعاية الطفولة لا سيما في بلد كالعراق عاش حروبا طويلة وحصارات عديدة حتى فقدت فيه الطفولة معناها إسوة بغيره من البلدان، وحتى باتت مسألة رعاية الطفولة والعناية بالطفل تدخل ضمن الواجبات الوطنيّة والأخلاقيّة للفرد العراقي ابتداء من الأب والأسرة مرورا بالمعلم والسياسي وانتهاء بالمؤسسات الأهلية والحكومية  فالطفل كما أثبتت الدراسات التربوية والنفسية أشبه ما يكون بالغرس الذي نغرسه ونمدّه بمقوّمات الحياة ، فكلّما كانت درجة العناية بهذا الغرس أشدّ وأعلى ، جاءت عطاءاته - فيما بعد -  أينع ثمرا، وأسرّ للناظرين! 
وكم من تجارب كثيرة عاشها الغارسون والزرّاع تيقنوا من خلالها أن أي اعوجاج في غرسهم إن لم يقوّموه في مساره الأول، شقّ عليهم فيما بعد، واستبدّ حتى لا ينفع معه خبير ولا حكيم مجرّب في إصلاح اعوجاجه وتقويم انحرافه!
وعليه، فإن نظرة سريعة لما تخصصه الدول المتطورة ومؤسساتها لهذا الأدب الحيوي والهام، وما ترصده من طاقات ومال وفرص دراسة وتعليم ونشر وسوى ذلك، إن تلك النظرة ستجعلنا نرى بؤس وضع أدب الطفل عندنا وأهميته عندهم وسنخرج بدلالات عديدة لنوعية الاهتمام وحجمه بين الطرفين ، ففي الوقت الذي تعدّه تلك الدول من الأولويات الهامة لبناء الأجيال وتربيتها وفق مقاييس مدروسة على المعايير التي يرونها مناسبة لهم، بينما لا نزال نحن للآن  نعدّ كتاب الطفل والكتابة له حاجة كمالية زائدة، بل والأدهى من ذلك مازال هذا الأدب يعاني من التهميش المتعمّد والإقصاء القهري، بلا سبب حقيقي او دواعي موجبة إلا جهلا بقيمته وقصورا عن معرفة أهميته، وخطورتها.
• هل لأدب الطفل سمات خاصة؟
إنّ للطفل عالمه الخاص، وله أشياؤه الأثيرة التي تلائم وعيه المحدود المناسب لتجربته الحياتيّة قياسا بالكبار، ولعلّ أولى العوائق التي تواجه المتصدي ( الكبير ) للكتابة الطفولية هي صعوبة تقمّص شخصية الطفل وشعوره ككائن يختلف عن الإنسان الكبير الذي يكتب له، إذ أنّ مدارك الطفل ونفسيته الحرّة الكارهة للأوامر والنواهي ، والمحبة للبهجة وللخيال وللغرابة سوف لا تتناسب مع نفسية الكبير التي لا تميل إلى ما يفضّله الأطفال مع استثناء لبعض الأدباء والمتخصصين بالكتابة للطفل والقادرين على تلبُّس شخصيات الأطفال، والعودة إلى عالم الطفولة الرائع والبريء، وهذه من المسائل الهامة التي تخصص أدب الطفولة وتمنحه حيّزا محددا وتميّزا عن بقيّة الأنواع الإبداعية في الكتابة. ومن الأمور الأخرى التي تخصص هذا الفن، اشتراط السهولة والوضوح في الأفكار المطروحة، لكن بلا إسفاف أو ضعف لأن الطفل حساس جدا للأدب التافه الذي يُخاطب به وهو سيمتنع عن قراءته بمجرد أن يبدأ به لأنه يمتلك جهازا قويا للاستشعار خاصا به كطفل، ومن هنا تبدو صعوبة الكتابة للطفل وضرورتها في الوقت ذاته، والتي يجب أن تُمارس دون استعلاء على الطفل أو ابتعاد عن درجة وعيه وإدراكه، كما يجب أن يجازى محترفو هذا الفن بأفضل الجوائز على مستوى المؤسسات والجامعات والوزارات والحكومات، ومن السمات الضرورية الأخرى أن تكون المادة المقدّمة للطفل متّصفة بالسهولة والمنطقيّة والتدرج من ناحية، ومن ناحية أخرى أن تشبع حاجاته الروحيّة بلغة واضحة فصيحة وسلسة تراعي المستويات العمرية للأطفال ملتفتة إلى نقطة هامة وهي أن من أهم وظائف هذا اللون من الأدب ربط الأجيال بتراثهم الإسلامي وبلغتهم العربيّة الأم، فالأطفال بطبيعتهم يمقتون اللغة المتكلّفة والتعابير الجاهزة السمجة ويميلون إلى الألفاظ السهلة العذبة والتعابير المبتكرة بصياغات لغوية معقولة غير منفرة لآذانهم ولأذواقهم.
 
• دعوات 
بما أن أطفالنا هم آمالنا التي تكبر وهم من سيحمل بصمتنا الثقافية من بعدنا وهم هويتنا التي نريدها وفقا لصورة ثقافتنا التي غذّانا إياها آباؤنا وأجدادنا، لذا فإن الاهتمام بهم بطرق علمية ونفسية مدروسة يأتي ضمن الواجبات المقدسة لنا، لا سيما ونحن نحيا في حومة صراع ثقافي حامي الوطيس يريد كلّ طرف فيه أن يفرض قناعاته وآراءه على الطرف الآخر، وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر بهذا الأدب الحيوي والهام والذي لا يقلّ شأنا عن أدب الكبار ( الأدب المعتمد أو الرسمي) خصوصا وأنّ أدب الطفل عانى من الإقصاء والتهميش في العقود السابقة الشيء الكثير لأسباب مرتبطة بطبيعة النظام السابق وسياساته التي تمليها مصالح فئوية وشخصية ضيقة ، والغرابة هي أن يعاني -الآن- أدب الطفولة الشيء الكثير أيضا، وربّما لم يسمع أحدنا أن جائزة كبيرة خصصت لأدباء الأطفال، أو أن مطبوعا من مطبوعاتهم لقيت الثناء والشكر من لدن مسؤول حكومي أو مؤسسة ثقافية أو جامعة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الانفتاح الثقافي وحرية النشر وحرية انتقال المقروء وتداوله بين وسائل إعلامية مختلفة بات من الأشياء التي تخصص هذه المرحلة الحرجة والهامة التي يعيشها بلدنا وهو يعيد إلى عروقه نسغ الحياة من جديد بعد أن دبّ فيها الموت والعطش عقودا طويلة، لكن ما يقدّم لفلذات قلوبنا من زاد معرفي وروحي سيسهم في إحيائهم حياة طيّبة مستقرّة ما زال أقلّ من القليل !