اللغة والقرآن ودورهما في تطوير الحياة الاجتماعيّة للأمة العربية والإسلامية

أ.د.خديجة عبدالله شهاب([1])

مقدمة

تتكئ اللغة العربية على مصدر غزير لا ينضب لمفرداتها، لذلك تشعر بالسّعادة. تفتخر فتتهادى وتتبخر بغنج شفيف يحاكي العقل والقلب، وهي في هذا السّياق
 تشبه الإنسان تولد مفرداتها فتنمو وتتطور، وتتلاقح مع اللغات الأخرى، تأخذ منها وتعطيها، ومن ثّمَّ تشيخ بعض مفرداتها تغادرنا لتحل محلها مفردات أخرى بحلّة جديدة، مفردات تتوالد من رحم الحضارة والتّطور. لقد "شَغَلت العربية أهلها، أُفْتِنوا بها وعشقوها، وهبتهم روحها فمنحوها رعايتهم واهتمامهم. اعتنوا بها فشذبوها من كل ما هو حوشيّ ومقعر، زينوها بالبلاغة مضافًا إليها الخبر والإنشاء، ضبطوا حروفها صاغوا نَحْوها، ألبسوها أجمل حُلَلِها وأجلّها، فأخرجوها للناس خيرَ لغة"([2])

علاقة القرآن الكريم باللغة

لا ينسى المرء في معرض ما تقدم؛ فضلَ القرآن الكريم على اللغة العربية، فهو الّذي حفظها من التّحريف، وقد قال تعالى : ﴿إنّا نزلنا الذّكر وإنّا له لحافظون﴾ " الحجر -9 وارتقى بها نحو الكمال. كما أنّه وحّد لهجات العرب والقبائل، وقد كان لهم أسواقهم، ومعلقاتهم، ومبارياتهم في سوق عُكاظ وخلّصها من "حوشيّ الألفاظ الّذي ينبو عن السّمع، ويمجّه الّذّوق السليم"([3])، ورقّت أحاسيسهم ولامست كلماته شغاف قلوبهم فأفصحوا وأبدعوا، وتناسوا ما كان بينهم من اختلافات لهجيّة، كما أنساهم الإسلام الخلافات القبليّة.

وقد ساهم القرآن الكريم إسهامًا مباشرًا في انتشارها حتى" تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نَعْلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل البخاري ومسلم، والنِسائيّ، وابن ماجه القزويني، وغيرهم"([4]) . فتحت اللغة العربيّة آفاقًا رحبة، وبلادًا واسعة، ذلك أنّ جميع الشّعوب التي دخلت في الإسلام، تعلمتها لممارسة شعائرها الدّينية وفي هذا قال تعالى:﴿ إنّا جعلناه قرآنًا عربيّا﴾" الزّخرف-3.

وعلى الرّغم من أن التّطور سنَّة جارية في كلّ اللغات، وأكثر مظاهره يكون في الدّلالات إلا أنّ اللغة العربية بقيت محتفظة بكل مستوياتها اللغويّة (صوتيّة- صرفيّة- نحوية- دلاليّة)، إذ إنّ المحافظة على الأصل الدّلالي للفظ مع تطور الزّمن له فائدة لا يستهان بها، فتواصل الفهم بين الأجيال للنّصوص القديمة وتراث الأمّة أمرٌ من الأهمية بمكان، ويزداد إدراك أهمية الاستقرار اللغوي الذي تتميز به العربيّة، إذا ما تأملنا ما يجري في اللغات الأخرى.

 كما أنّها تتميز من غيرها من اللغات في ضبط أواخر الكلمات لتحديد مكانها من الإعراب، فإذا أبْدلتَ  حركةً ( -ُ، -َ، -ِ،-ْ ) من مكانها الصحيح، فإنك بعملك هذا إنّما  تتلاعب بالمعنى وتنقله الى سياق غير السياق الّذي وُضع له ، ومن الأمثلة المشهورة على ذلك الحادثة التي حصلت بين أبي الأسود الدؤلي وابنته، وقد قالت له يومًا: يا أبَه، ما أحسنُ السماء؟ فقال: أيّ بنيّه نجومُها، فقالت: إنّي لم أُرد أيّ شيء منها أحسن، وإنّما تعجبتُ من حُسنها، فقال: إذًا فقولي: ما أحسنَ السماء! ". وما بين الضم والتعجب تغير الجواب، وتغير المعنى أيضَا.

ونعثر في اللغة العربية على الضمائر التي نخاطب فيها الإناث (أنتِ، هي)، كما نعثر على الضمائر التي نخاطب بها الذّكور( أنتَ، هو) ، بينما في بقية اللغات لا نفرق بينهما في الخطاب ف(( you تعني أنتَ أو أنتِ في اللغة الإنكليزية، و(tu ) تعني أنتَ أو أنتِ في اللغة الفرنسية؛( وتو) تعني أنتَ أو أنتِ في اللغة الفارسية.  إذًا اللغة العربية تحترم المخاطب والمخاطبة والغائب والغائبة وتساوي بين الجنسين.

أضاف القرآن الكريم إلى اللغة العربيّة الكثيرَ من المفردات والتّعابير الجديدة التي لم تكن معروفة في الجاهلية، من مثل الكفر، الإيمان ، الشّرك، الصّوم، الزكاة، ... ونجد كثرة الأسماء للمسمّيات، فهناك على سبيل المثال أكثر من خمسمئة اسم للأسد، وما يزيد على المئة اسم للسيف، وهذا ما لا نعثر عليه في اللغات الأخرى.  وقد سلك القرآن الكريم باللغة مع الحديث النبويّ الشريف" في البلاغة مذاهب ينقطع بها كلُّ بليغ"([5])،فقد جاءت أحاديث الرّسول بها، وآتاه الله العزيز الكريم جوامع الكلم، فكان يقول الحديث من كلمات قليلة جدًا، ولكنه يحتوي في مضمونه على معانٍ كثيرة، وأحكام لا تنتهي.

ويمكن القول إنّ القرآن الكريم يقف خلف انطلاق الحركة العلميّة التي نشأت حوله بمرور الزّمن، وقد قال الإمام علي في وصفه" إنّه لا يَخْلَق( أيّ لا يبلى) من كثرة الرّد ( أيّ من كثرة الترديد والقراءة) بل على العكس تمامًا، فكلما أكثرت من قراءته كلما عثرت في كل قراءة على جواهر جديدة، وهو بالتالي الدّافع المحرك لكلّ النّهضة العلميّة التي شهدها العالم الإسلامي منذ القرن الهجريّ الأول.

ولأجل أن نصون لغة القرآن إعرابًا وقراءة، نشأت علوم النّحو والقراءات، ولكي نفهم مضامينه، ظهرت علوم التفسير وأسباب النزول، والنّاسخ والمنسوخ والمُحكم والمُتشابه، ولنعرف أحكامه تفرّع عنه علم الفقه وأصوله، ولفهم إعجازه البياني وُضعتْ علوم البلاغة،....... وهكذا نرى أنّ العلوم الإسلامية كلّها أنّما قامت لخدمة القرآن الكريم.

بالاستناد إلى ما تقدّم؛ نشير إلى أنّ العلاقة بين إعجاز القرآن والبلاغة في اللغة العربية علاقة وثيقة لا انفكاك فيها، وهنا سأسلط الضوء على الخصائص المتعلقة بالأسلوب القرآني، والمفردة القرآنية، والجملة القرآنية ، كما سأعرّج على علميّ البيان والبديع.

إنّ اللغة العربية لغة اشتقاق، وقد أفاد القرآن الكريم من هذه الميزة، وطوّعها لتكون إحدى مظاهر الفصاحة فيه وفي آياته، إذ إنّ القابلية والتوالد اللذين تتمتع بهما الكلمة العربية، يمنحنا كلمات غزيرة، قد تكون كلمات متضادة، أو قد تفصح عن معانٍ جديدة ، ومع إضافة حرف أو أكثر ننتقل إلى الفعل المزيد الذي يعطينا صيغَ متنوعة ومنها: فاعل ، وانفعل ، وافتعل ، وافعنلل، وتفاعل، وتفعّل....فالقسط مثلا في اللغة العربية تعني العدل، وقد استعمل القرآن هذه اللفظة للحث على قيام العدل والقسط ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ الحديد 25. وفي الاشتقاق من (القسط) المُقسط أيّ القائم بالعدل﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة -8 ، و(القاسط) تعني الذي مال عن العدل، وانحاز إلى نفسه، وهي في هذا السياق اكتسبت المعنى النقيض للمعنى الأساسي لهذه المفردة،﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ الجنّ-15 وغير ذلك الكثير مما لا يمكننا عرضه، بسبب ضيق الوقت.

خصائص الأسلوب القرآني

 لا تعدو الفنون التعبيرية عند العرب ما قبل الإسلام أن تكون شعرًا ونثرًا ، وأمّا مع الإسلام فقد أرخى القرآن بثقله على اللغة العربية، وصارت تجري بمفرداتها على نسق بديعٍ خارجٍ عما كان مألوفًا من نظام الكلام عند العرب، ومن مثال ذلك ما جاء في قوله الكريم﴿ حم (1) تنزيلٌ من الرّحمن الرّحيم(2) كتابٌ فُصِّلتْ آياته قرآنًا عربيًّا لقوم يعلمون(3) بشيرًا ونذيرًا فأعرضَ أكثرهم فهم لا يسمعون(4) وقالوا قلوبُنا في أكنّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ فاعمل إنّنا عاملون(5) ﴾ فصّلتْ1-5

فهذه الآيات وغيرها من الآيات بهرت العرب بجمال تأليفها العجيب، ونظمها البديع ، ذلك أنّ الأسلوب القرآني ظل جاريّا على نسق واحدٍ من السموّ في جمال اللفظ، وعمق المعنى، ودقة الصّياغة وروعة التعبير، وقد نظر العرب إلى التغيير الجذري الذي أحدثه الوحي ليس في العادات المفاهيم والتقاليد فحسب ، بل في القول وفنون الكلام والنظم البياني، فهو لم يترك ناحية من نواحي حياتهم إلا وتناولها وتحدّث بها، أضف إلى أنّه نظّمها كلّها وفي المستويات كافة السياسي منها والاجتماعي الثقافي والأدبي.

نظروا إلى لغتهم وهي تتجه في ظل القرآن، نحو الاستقامة والاستقرار والصعود، فانّكبواعلى عطائها يختزنونه، وعمدوا إلى مرونتها يستفيدون منها بكل يسر وسماح ، فكان مخزونهم جمالاً بلاغيَّا لا يفنى ، وكانت استفادتهم موروثاً بيانياً لا ينفد ، وما ذاك إلا نتيجة إستجلائهم دلالات القرآن الأدبية ، وتغلغلهم في أعماق فنونه البلاغية. ولا يخفى على الدّارسين أنّ الأسلوب القرآني يصلح لأن يُخاطب الناس كلّهم على مختلف مشاربهم ومداركهم وثقافاتهم، وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، وحاكى علومهم في تطورها وارتقائها.

ومن خصائص الأسلوب القرآني أيضَا تميّزه بالتكرار الذي يحتوي على معان بلاغية، كالتهويل، والإنذار، والتجسيم، والتصوير  ومن أمثلته﴿الحاقّة(1) ما الحاقّة(2) وما أدراك ما الحاقّة(3)﴾ الحاقّة 1-3. ومن أنواع التكرار تكرار بعض القصص القرآني، الّذي يؤدي إلى معانٍ خاصة، إذ تبدأ القصّص المكررة بإشارة مقتضبة ثمّ تطول شيئًا فشيئًا، ويروح ليعرضها على نسق مشوق تحفل بكل ما في القصة من مميزات التشويق والجذب، ولا ننسى محافظته على عناصر القص كاملة، ومن أمثلتها قصّة النبيّ يوسف عليه السّلام ، وقصة السّيدة مريم عليها السّلام ، والنّبي موسى.... فكل قصة تسلم إلى رفيقتها قياد البلاغة والسّلاسة والمفردات الجميلة والعِبرة  الغنيّة بالمفاهيم والأحاسيس التي تنقلك إليه وتجعلك تعيش الحالة لحظة بلحظة، ولا يغيب عن بالنا أنّها تسير في سياق تحمل معه مفاهيم تربوية دينيّة اجتماعيّة، وقد أريد بهذا النّوع من التّكرار التأكيد على الغاية التي جاءت بها القصة.

خصائص المفردة القرآنيّة

تتميز المفردة القرآنيّة بجمال وقعها في القلوب والأذان، واتساقها الكامل مع المعنى، أضف إلى اتساع دلالاتها، وهذا ما لاتتسع به عادة المفردات الأخرى  من المعاني والمدلولات. استطاع القرآن أن يهيمن بروعة مفرداته وشموليتها، وأن يستولي على لبّ الكثير من المفكرين والمثقفين والأدباء ، حتى أنّنا نعثر في أدبهم على تعابير ومفردات تتميز ببعض هذه الخصائص والميزات، أمّا أن تجتمع كلّها معًا وبصورة مطردة لا تختلف أو تشذّ فذلك مما لم يتوفر إلا في القرآن الكريم، ومن أمثلة هذا النوع ما جاء في سورة التكوير (17-18)﴿ واللّيل  إذا عسْعَس*والصّبح إذا تنفّس﴾ ومع كلمتي (عسعس، وتنفس)  تنبعث في خيالك صورة المعنى محسوسًا مجسّمًا من دون الحاجة للرجوع إلى معاجم اللغة. أويمكنك أن تتصور إقبال الليل وانفلات النّهار وتمدده في الأفاق المترامية بكلمة أدق وأدلّ  من هاتين الكلمتين؟!

خصائص الجملة القرآنيّة وصياغتها

سبق أن أشرت إلى الاتساق والانسجام والتلاؤم بين الكلمات؛ وبين حركاتها وسكناتها، فالجملة في القرآن الكريم نجدها مؤلفة من كلمات وحروف وأصوات يستريح لأَلقِها السّمع، والصوت والمنطق، ويتكوّن من تضامنها نسق جميلٌ ينطوي على إبداع رائع، ما كان ليتمّ لو نقصت من الجملة كلمة أو حرفٌ، أو برز أيّ اختلاف في ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال، فقد جاء في سورة القمر (11-12) ﴿ ففتحنا أبواب السّماء بماءٍ منهمر* وفجّرنا الأرض عُيونًّا فالتقى الماءُ على أمرٍ قد قُدّر﴾ فالمتأمل في تناسق الكلمات في كل من مفردات هاتين الآيتين، بل وتناسق الحروف قبل الكلمات، يعثر على إيقاع فنيّ مميز ولّدته الفواصل السجعية الرّصينة غير المتكلفة المنتهية بحرف (الراء) وقد زادت في رونق الكلام وجماله.

   تتألف هاتان الآيتان من كلمات قليلة إلا أنّهما تحملان من المعاني، ما لا يمكن تخيل حصره، فكلما نظر مفسر في الآية استخرج منها معانٍ معينة، تروح وتتنوع بين مفسّر وآخر، وفي هذا يقول الباقلاني:" تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضَا في الّلطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع" وبكل بساطة فإن أسلوب القرآن هو أسلوب السّهل الممتنع، فالجميع يستطيع أنّ يقرأه وأن يفهمه، ولكن كلٌ بحسب مستواه الفكري ونضوجه العلمي والدّيني، في المقابل لا يستطيع أحدٌ أن يكتب مثله، لا من حيث الصِيغ اللغوية، ولا من حيث الكتابة الإبداعية.

الأساليب البيانيّة في القرآن الكريم

.يمكن القول إنّ اللغة العربيّة تحولت مع القرآن إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة، فقد ساهم في تهذيب ألفاظها، وصقل مفرداتها ما أدى إلى نشوء علم البلاغة

علم البلاغة: وقد جاء في تعريفه؛ أنّه على مستوى المعنى؛ هو الأسلوب الفصيح الذي يضمّ : أساليب المجاز من تشبيه واستعارة وكناية وقصر ... وهو في مستوى المبنى : موسيقى الألفاظ من سجع وطباق ومقابلة ... ونشير هنا إلى أنّ كلمة ( بلغ ) ومرادفاتها ضمن مصطلحات القرآن تعني البلاغ والتبليغ.

أولاً: في مستوى المعنى

أ-التشبيه

وهو في معناه يعني عقد مقارنة بين طرفين أو شيئين يشتركان في صفة واحدة ويزيد أحدهما عن الآخر في هذه الصفة باستخدام أداة التشبيه، ومن أمثلته في القرآن الكريم ما جاء في سورة هود: الآية:22﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ﴾ إنّ مجيء لفظ الجبال لتشبيه الأمواج العظيمة بها كان ملائمًا لحال القوم المخاطبين بهذا القرآن حين نزوله وهم كفار قريش، فالآية مكيّة، ووجه الملاءمة أنهم يعيشون بين جبال شواهق، ويظهر أن( ال) في الجبال عهدية، أيّ أن المراد والله أعلم: موج كهذه الجبال التي أنتم قاطنون فيها. وفي ذلك من التحذير والتقريع والتخويف مما فيه.

ب- الاستعارة: وهي تشبيه بليغ حُذف أحدُ طرفيه؛ ومما جاء منه قي كتاب الله﴿ قال ربِّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرأس شيبًا﴾ مريم-3 ففي هذه الآية لا تقف كلمة اشتعل عند معنى انتشر فحسب، ولكنها تحمل معنى أن  الشيب بدأ يدبُّ في الرأس في بطء وثبات، كما تبدأ النّار في الفحم ببطء، ولكن في دأب واستمرار، حتى إذا تمكنت من الوقود اشتعلت في قوة لا تبقى ولا تذر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعر فإنّ الشّيب يحرق ما يجاوره من شعر الشّباب، حتى لا يبقى شيء منه بلون السواد، وقد التهمه الشّيب وأتى عليه كاملاً، وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس ما يوحي بهذا الشمول الّذي التهم كل شيء في الرأس.

 ج- الكناية: عرّف عبد القاهر الجرجاني  في متابه ( دلائل الإعجاز) الكناية" أنّها إيراد معنى ما دون ذكره بلفظه صريحًا، مع التدّليل عليه بمعنى آخر يتشابه معه في نقطة ما، ومن أمثلته في القرآن الكريم﴿ ولا تجعل يدّك مغلولةٌ إلى عنقكَ ولا تبسُطها كلّ البَسط فتقعُد ملومًا محسورًا﴾  الإسراء -28 إنّ الكناية هنا تنحصر في كلمة ( مغلولة) وتعني البخل، وفي  كلمة ( مبسوطة) وتعني الإسراف، فلا البخل محمود لأنّه يمنع الفائدة عن المُحْسن والمُحسَن إليه، ولا الإسراف مشكور لأنه يصل بصاحبه حدّ التبذير الأمر الّذي يجعل صاحبه يندم على عمله في يوم من الأيام

ه- الإيجاز: وهو أن نأتي بكلام قليل، ولكنه يحمل في طياته معانٍ كثيرة، ومن أمثلته قول الله تعالى﴿ولكم في القِصاص حياةٌ يا أُولي الألباب لعلكم تتقون﴾البقرة- 179 فعلى الرّغم من قلّة الكلمات في هذه الآية؛ إلا أنّها تتضمن معانٍ كثيرة، فالقصاص لفظ يشمل الضرب والجرح والقتل، وبلفظ القِصاص خرج عن القتل الخطأ وشبهة الدّفاع عن النّفس الّذي لا يُعاب فاعله بالقتل، كما أنّ لفظ الحياة جاء منكرًا ليشمل المتطلع إلى الاعتداء، لأنّه إذا علم أنّ العاقبة هي القصاص ارتدع، فيكون سببًا في حياة نفسين، كما أنّ في القصاص حياةٌ للجماعة لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد ،ويظل الثأر مستمرًا بينهم، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون، فيكون ذلك سببًا في حياتهم....هذه .بعضٌ من أساليب البلاغة على مستوى المعنى التي سلطتُ عليها الضوء لأبين العلاقة الوثيقة ما بين القرآن الكريم واللغة العربية

ثانيًا: في مستوى المبنى

  فكانت موسيقى الألفاظ من سجع  وجناس وطباق ومقابلة وتوري

  • السّجع : وهو تشابه فواصل الكلم على نفس الحديث تقريبًا، بمعنى أن تكلون الجمل متساوية في عدد كلماتها ومحتويةعلى  نغمة الإيقاع مشابهة﴿إنّ شجرتَ الزُّقُوم (43) طعام الأثيم(44) كالمُهلِ يغلي في البطون(45) كغلي الحميم(46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم(47) الدُّخان-43- ،47  وقد جاءت الفواصل السّجعية رصينة من غير تكلّف زادت من جمال المعنى، ورونق الكلام.
  • الطباق: وهو أمّا طبق سلب أوطباق إيجاب، ويجمع بين الشّيء وضده ليظهر الحسن والجمال ؛ وذلك من مثل قوله تعالى ﴿ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ﴾ الكهف: 18.

ج-المقابلة: وهي طباق تجاوز فيها الطباق ضدين أو أكثر، وذكْر معنيين أو أكثر، وما يقابلهما في الدّلالة على الترتيب، ومنها قوله تعالى﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾.الحديد 23

:د- الجناس: هو أن يتشابه اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى. وهو نوعان

1-  جناس تام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة وهي: نوع الحروف، وشكلها، وعددها ، وترتيبها.

2- وجناس ناقص: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة التي تقدّم ذكرها، ومن أمثلته في الكتاب العزيز ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة( الرّوم-55

د- التورية: وهي أن يُذكر لفظٌ له معنيان؛ أحدهما قريب ظاهر غير مراد، وآخر بعيد خفيّ وهو المراد؛ ومما جاء في القرآن الكريم على التورية قوله تعالى﴿ .. والنّجمُ والشجر يسجدان﴾ الرّحمن-6 ، وقد أراد بالنّجم النبات الذي لا ساق له، والسّامع يتوهم أنّه أراد الكوكب، لا سيماء مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.

وعلى الرّغم من كلّ التقدّم الذي يجري في العالم على المستوى التّقني، ومن اقتحام الآلة حياتنا، وتخلي الكثير من أبنائنا عن لغتهم، لأنّهم يعتقدون أنها لغةٌ دونية لا تفي بغرض الأبحاث العلمية والأدبية؛ فنقول لهم إنّ اعتقادهم غير صحيح، فما تقدّم الحديث به عن صور الإعجاز في القرآن الكريم، ورفده للغة العربية أولا ، وللعالم الإسلامي ثانية يؤكد ضعف اعتقادهم.

وعلى الرّغم من أنّ الكثير من المثقفين والمتعلمين يخافون على اللغة العربية من  الضّياع، فإننا نقول لهم لا خوف عليها من الضياع، مادامت رفيقة القرآن في كلّ زمان ومكان؛ وهي اليوم تتجه لأن تصبح لغة عالمية، خصوصًا إذا ما عرفنا أنّ العديد من دول العالم تعتمدها كلغة ثانية في مدارسها وجامعاتها.  

وكم من شاعر تغنى بلغتنا الجميلة ومنهم الشاعر جاك صبري شماس، فقال:

 لغةٌ حًباها اللهُ حرْفًا خالدًا                               فتَضوَّعتْ عبَقًا على الأكوانِ

وتلألأتْ بالضادِ تشمخُ عِزّةً                             وتسيلُ شَهْدًا في فم الأزمانِ

فاحذرْ أخي العربيّ من غدر المُدى                     وازرع بُذور الضَاد في الوجدانِ

ولئن نطقتَ أيا شقيقي فلتقلْ                            خيرُ اللغاتِ فصاحةُ القرآنِ

بحث شارك في المؤتمر الدّولي الأول للغة العربية والحضارة الإسلاميّة مجمع الفارابي طهران- وجامعة الكوفة العراق- محور اللغة العربية والدّراسات الفقهيّة والأخلاقيّة*


[1] - أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وأستاذة اللغة العربية في جامعة المعارف- وأحد رئيسي التحرير في مجلة " أوراق ثقافية" مجلة الآداب والعلوم الإنسانية.

[2] - شهاب - خديجة : سيميائية الأخطاء في اللغة العربية بين المرئي والمسموع- بحث منشور في مجلة الحداثة- العددان 197- 198- شتاء 2019م

[3] - عباس ، دلال- القرأن والشعر- دار المواسم للطباعة والنشر – بيروت – لبنان- ط أولى 2019- ص26.

[4] - المزهر في علوم اللغة العربية السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (ط. مصر).

[5] - محمد بن ابراهيم الحمد: فقه اللغة مفهومه وموضوعاته وقضاياه، دار ابن خُزيمة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية، الرياض، ط أولى، ص 125، سنة 2005م.