الحرية

السيد منير الخباز
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
من القيم الجمالية الرائعة التي تجسدت في مدرسة كربلاء قيمة الحرية التي تحدث عنها الامام الحسين(عليه السلام) عندما قال :"إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم", وعندما وقف (عليه السلام)على الحر بن يزيد الرياحي قال :"صدقت أمك حين سمتك حرا , أنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة".
فما هو مفهوم الحرية ؟!
الحرية عند الاختيار القدرة على الفعل وعدم الفعل المعبر عنها في كلمات علمائنا إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل , وحتى نستوضح مفهوم الحرية بشكل دقيق نتعرض إلى فكرتين :
الفكرة الأولى : وتتمحور حول الاختلاف بين نظرية المتكلمين ونظرية العرفاء 
نظرية المتكلمين: 
وفي هذه النطرية يقسِّم علماء الكلام الموجودات إلى قسمين 
القسم الأول: كائنات جامدة كالحجر والصخرة.
القسم الثاني:كائنات حية كالإنسان والحيوان.
والكائنات الحية أيضاً تنقسم إلى أقسام ثلاثة (نبات وحيوان وإنسان) , وبناء على ذلك قسموا الحياة إلى ثلاث درجات هي:
 1/حياة النمو وهي حياة النبات , 2/حياة الإحساس وهي حياة الحيوان , 3/وحياة الإدراك وهي حياة الإنسان.
فالذي يميز بين الإنسان وغيره من الموجودات هو الإدراك , لذلك يعبرون عن الإنسان بأنه حيوان ناطق , يعني حيوان مدرك , وهذه هي نظرية علماء الكلام بشكل مبسط ومختصر.
نظرية العرفاء:
إن علماء العرفان يقولون ليس عندنا قسمان (كائنات جامدة وكائنات حية) وإن هذا التقسيم غير صحيح , فجميع الموجودات حية وجميع المخلوقات تعيش الحياة وليس هناك مخلوقات تسمى جماد وإخرى تسمى حية فكل المخلوقات حية, وهم يعللون ذلك بالآتي:
إن هذا الوجود أثر للخالق تبارك وتعالى , والخالق الذي هو مصدر الوجود وأوجده حيا وليس وجوداً جامداً أو ميتاً, فوجود الخالق وجوداً كله حياة بل هو عين الحياة, وبما أن وجود الخالق هو عين الحياة إذن أثره أيضاً هو الحياة, فالحي لا يخلق إلا الحياة والحي لا يصدر عنه إلا الحياة ومن هنا فإن الوجود كله يساوي الحياة, فحتى الصخرة الصماء فيها حياة و الحجر كذلك و كل موجود يعيش الحياة.
وهذا المعنى مأخوذ من القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى فيه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ومن هذه الآية يتضح أن لكل موجود تسبيحا حتى الحجر، والتسبيح هو لغة، واللغة لا يستخدمها الا ذو الحياة , فلو لم يكن حياً لما كانت له لغة التسبيح، وقال تعالى:{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وهذا  يعني أن الله تعالى جعل لكل شيء نطقاً فالحجر ينطق بتسبيح الله , ومن كلذ هذا نستنتج أن الحجر يعيش درجة من الحياة كما قال تعالى:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. 
 
هذه النظرية التي يذكرها علماء العرفان بأن كل ما في الكون يعيش حركة الحياة ليست خاصة بهم فقط حتى يقول شخص أنها نظرية غريبة , فإذا رجعنا إلى الفيزياء الحديثة وبالتحديد إلى النظرية النسبية لرأينا أنها تقرر ما يلي:
  لا يوجد شيء اسمه جماد , فجميع الموجودات ترجع للطاقة , وليس فيها شيء اسمه مادة جامدة فجميع الموجدات وجميع المخلوقات ترجع إلى مخلوق أول وهو الطاقة, وغاية ما في الأمر أن الطاقة قد تكون مجردة وقد تكون مكثفة فتتحول إلى كتلة وإلا فجميع المخلوقات والموجودات ترجع إلى الطاقة والطاقة وجود حي متحرك وليست وجوداً جامداً، ولعل هذا ما يشير إليه قوله تعالى :{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }. 
فهذه الآية إذا قارناها بآية أخرى مثلاً:{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } وبحثنا عن معنى (عرشه على الماء) لتبين أن أول مخلوق مادي خلقة الله تعالى هو (الماء) فقال تعالى:{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) ومن الماء انبثق كل شيء وبما أن الماء ليس موجوداً جامداً بل موجود يعيش حركة الحياة فكل ما انبثق عنه يعيش حركة الحياة، فإذن كل ما في الكون يعيش حركة الحياة وإذا كان الأمر كذلك فكل الكائنات كائنات حية والحياة تعني الإدراك فكل الكائنات سواء كانت جمادا أو نباتا أو حيوانا تملك تملك نصيبا ومستوى من الإدراك، وهذا يقودنا الى التساؤل التالي:
 ما الذي يميز بين الإنسان وغيره؟
الفكرة الأولى: القدرة على التغير 
فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمتلك القدرة على التحول والتغير وهذه القدرة هي الحرية , وهكذا فإن المائز بين الإنسان وغيره هو الحرية وهي من صميم وجود الإنسان لأنها تمنحه صفة القدرة على التغير والتحول بدون عائق ولا مانع.
 
الفكرة الثانية : الفكر والارادة
 فالكل سمع بمقولة الفيلسوف الفرنسي بيكارد (أنا أفكر إذن أنا موجود) ويناهظه مفكر آخر هوبيران ف يقول: لا، هذا ليس صحيح بل قل: ( أنا أريد إذن أنا موجود ) وهذا يرجعنا الى البحث عن أول شاهد على الوجود هل هو الفكر أو الإرادة ؟! وبيكارد :يقول هو الفكر مستندا الى أن الطفل أول ما يتصور ويرى أفكار تمر على ذهنه , وهذه الأفكار ترجح مقالة( أنا أفكر إذن أنا موجود ) ,وبيران يقول لا ( أنا أريد إذن أنا موجود ) ويرى كثيرون أن الأخيرة أصح، مستندين الى أن الصور والأفكار التي تمر على الإنسان على قسمين : 1\ فكر انفعالي .2\ فكر فعلي ، وتفسير ذلك كما في المثال التالي:
 أنا أمس الحرارة وبمجرد أن أحسها أرفع يدي وهذه فكرة انفعالية بسبب أن صورة الحرارة ارتسمت في فكري فابتعدت عنها، وكذلك بالنسبة للطعام اللذيذ حين اقبل عليه وغيرها من الافكار الانفعالية، مشتركة بين الإنسان والحيوان وهنا يعود التساؤل: ما هو المائز للإنسان ؟ والجواب هو الأفكار الفعلية ومعناها الأفكار التي يصنعها الإنسان بإرادة , فأنا تمر عليَّ أفكار كثيرة بعضها أنتخبه وبعضها ألغيه وبعضها أراه صحيحاً وبعضها أراه خطأ و بعضها استنبط منه و بعضها لا استنبط منه , فأفكاري هذه بيدي وليست مفروضة عليّ , وهذا يعني أن إرادتي تتدخل حتى في أفكاري, فأيهما الأسبق الإرادة أم الفكر؟ 
الأسبق الإرادة: لأنها تتحكم في أفكاري و الصور التي تمر على ذهني وحتى عواطفي , فأحب من أشاء و أبغض من أشاء , وورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله:" لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ماأبغضني، ولو صببتُ الدنيا بجَمّاتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني‏.* " فلا نستطيع أن نغير العواطف ولا الأفكار بالقوة فهما بإرادة الإنسان .
 
 إذن الإرادة هي أول شاهد على الوجود , وسابقة على الفكر وعلى العاطفة ومتحكمة فيهما، والإرادة تعيدنا الى موضوعة الحرية , وبما أنها متقومة بالإرادة ومتصلة بها والإرادة هي أول شاهد على الوجود إذن الحرية أول شاهد على الوجود , و هي من صميم الوجود الإنسان , وذلك يوصلنا إلى مفهوم الحرية.
الحرية: هي القدرة على التحكم بالأفكار وبالعواطف وبالميول , والقدرة على تغيير الداخل والخارج.
 
 
 
* موسوعة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في الكتاب و السنة و التاريخ