شهر رمضان.. صور متعددة للبناء الروحي والخُلقي

تحقيق: سلام الطائي- صباح الطالقاني
الصورة: قاسم العميدي

نستقبل شهر رمضان سنوياً بنيّة الصيام وأمنية الإتمام بفضل الله وتيسيره وهدايته، وتبرز في هذه المناسبة مصاديق الايمان وعمل الخير والالتزام الديني والانساني والأخلاقي بصورة أبهى مما كانت عليه خلال أوقات السنة الأخرى، ويتخلل هذه الأجواء المفعمة بأحاسيس الصبر والقناعة والرضا بأمر الله تعالى آمالاً عريضة للمؤمنين، بإحقاق الحق وتحقيق العدالة والعيش الكريم وترسيخ مفاهيم الاسلام السمحاء وتصحيحها بعيداً عن انحرافات التطرف والتحلل والضَلال...

ومن جانب آخر، فإن العادات السيئة من اخطر سلوكيات الانسان لأنها تمنعه من التقدم والكمال، فالمبتلى بكثرة الاكل والنوم تفوته الكثير من فرص النجاح، والمبتلى بعادة التسويف لا يوفق الى التوبة والمبتلى بالكذب يفقد ثقة الناس.

وقد يصير الانسان عبداً لعاداته كما هو حال المدمنين على المخدرات، فقد روي عن الإمام الحسن عليه السلام: (العادات قاهرات، فمن اعتادَ شيئا في سرّه وخلواته، فضحه في علانيته وعند الملأ).

وبما ان الصيام في شهر رمضان وبقية الايام يعد فرصة ذهبية لتقويم السلوكيات الاجتماعية والحياتية التي يشوبها بعض الخطأ او التجاوز او السوء، فقد حاولنا خلال تحقيقنا التالي تحديد العادات التي يجب الابتعاد عنها، فضلاً عن الاشارة الى اهم العادات الصحيحة والتأكيد عليها..

بناء روحي وخلقي..

الخطيب، الشيخ عبد الامير المنصوري، أكد ان" شهر رمضان مدرسة لبناء الانسان روحياً وخلقياً، فالله تبارك وتعالى أراد للإنسان ومن الانسان ان يتسامى ويتكامل ليصل الى مراتب القرب الالهي، فجعل له محطات يقف عندها ليعرج منها الى ربه ويشعر بفقره وحاجته اليه تعالى, ومن هذه المحطات شهر رمضان المبارك، شهر الله تعالى دعا فيه المؤمنين الى ضيافته، والله اذا دعا الناس الى موائده وعطائه فانه يبالغ في ضيافتهم، فما هي هذه الموائد التي دعانا الله تعالى للتزويد منها والوصول من خلالها الى مراتب عالية من الكمال إلا دروس نصل من خلالها الى رضاه، والى بناء انفسنا وقتل شهواتنا الشيطانية، ولكن ليس كل من صام وصل، الصائم ليس من كف عن الطعام والشراب بل الصائم من صامَتْ جوارحه والجوارح تتحرك بوحي الجوانح فإذا صام القلب واستشعر الطاعة والقرب من الله والاطمئنان خضعت له الجوارح..

وأضاف المنصوري" ومن هذه الشروط في حال الصيام حسن الخلق والسلوك وحسن الخلق الركن الاساس والمهم في كل مجالات حياتنا اليومية فضلاً عن ايام الصيام، لذا فان النبي الاكرم صلى الله عليه وآله جعل أجر من ضمن خلقه الجواز على الصراط والصراط من اصعب العقبات يوم القيامة قال صلى الله عليه وآله وسلم اكد في خطبته عند استقبال شهر رمضان ((...أيها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاقدام)).

وتابع" فلابد أن يكون الصائم في شهر رمضان على مستوى من الخلق من الرحمة للآخرين وكف الأذى واحترام الناس والتجاوز عمّن أساء والرأفة والرحمة بالزوجة والاولاد والوالدين وبقية المؤمنين ومساعدة الضعفاء والايتام والمحرومين والإقبال على الاعمال الصالحة، حتى تكون هذه الأخلاق ملكة راسخة في النفس. فإذا كنّا كذلك فقد استفدنا ونجحنا في هذا الطريق والسلوك والسير الى الله تعالى، وإلا فليس لنا إلا الجوع والعطش.

وختم المنصوري مبيّناً" لابد من الالتفات الى أمر مهم في كل العبادات وهو ان العبادة على نحوين:

الاول: عبادة يسقط الانسان من خلالها الواجب ولم يكسب منها شيئاً من آثارها وبركاتها كمن يصلي وهو منشغل بصلاته بأمور الدنيا وهمه ان يسقط التكليف فقط. فهذا ليس له من آثار وبركات وفيوضات الصلاة شيئاً او يحصل على شيء يسير جداً.

الثاني: عبادة ليس الغرض منها اسقاط الواجب بل الغرض منها تهذيب النفس والاستفادة من نورها وفيوضاتها لذا تراه في صلاته يعيش حالة الخشوع وفي صيامه يعيش حالة صوم الجوارح وحالة القرب من الله تعالى. فالعبادات ليست وظيفة يؤديها العبد وكفى، بل العبادات تهذيب للسلوك وبناء للإنسان فكلما اقترب من مصدر النور ازداد نوراً.

وقودٌ ايماني!

شهاب احمد الحسني، من مدرسة الامام الحسين التابعة للعتبة الحسينية، قال" يعتبر شهر رمضان من افضل الشهور كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله (شهر هو عند الله افضل الشهور وايامه افضل الايام ولياليه افضل الليالي وساعاته افضل الساعات...) ولذلك فهو فرصة ثمينة للتزود بالوقود الايماني اذا صح التعبير.

ومن هذا المنطلق لابد من تغيير العادات والسلوكيات الخاطئة لان تغييرها افضل العبادات كما قال الامام علي عليه السلام (افضل العبادات غلبة العادة) اي ان تتغلب على العادة.

وبما اننا في رحاب شهر رمضان المبارك، حريٌ أن ننتبه الى بعض السلوكيات والعادات الخاطئة ونعمل على تصحيحها. ومن هذه السلوكيات:

1ـ قلّة الفاعلية: للأسف يصاب العديد من الناس في شهر رمضان بالكسل والخمول مما يؤدي الى تدني ما يقوم به الموظف او العامل والطالب عمّا تعوّد عليه من انتاج خلال الشهور الاخرى.

ولو رجعنا الى التعاليم الدينية نلاحظ التأكيد الشديد على اهمية احياء ايام وليالي شهر رمضان بالعبادات والذكر والدعاء ومضاعفة الاعمال الصالحة، فشهر رمضان الاعمال فيه مقبولة كما قال الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله (وعملكم فيه مقبول) وعلى الانسان المؤمن ان لا يجعل الصيام سبباً للتقصير في العمل بل يجب ان يكون الصيام حافزاً للجد في العمل.

2ـ الاسراف في الطعام: من السلوكيات الخاطئة في شهر رمضان هو الاسراف والافراط في تناول الطعام مما يفقد الصيام هدفاً من اهم أهدافه وهو الصحة التي ترجى من الصيام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله (صوموا تصحّوا) فالأفضل للصائم الاكتفاء بوجبتي الافطار والسحور، فضلاً عن ان القرآن الكريم يشير الى اهمية الاعتدال في الاكل والشرب قال تعالى (كلوا واشربوا ولا تسرفوا...).

3ـ الادمان على مشاهدة التلفاز: حيث يقضي الكثير من الناس اوقاتهم في مشاهدة برامج التلفاز ونحن نلاحظ كيف تنساق الفضائيات لعرض المسلسلات في شهر رمضان والبرامج المسلية وغيرها وكأن شهر رمضان موسم لعرض المسلسلات والبرامج الترفيهية التي تبعدنا عن اهداف شهر رمضان وقيمته الحقيقية.

فينبغي الاقتصار على مشاهدة بعض المسلسلات الهادفة والجيدة التي لا تسيء الى المشاهد، وقد

قال رسول الله صلى الله عليه وآله (الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر ولم يغفر ذنوبه).

4ـ التعامل بعصبية وحدَّة: هذا السلوك غالباً ما تراه عند الكثيرين فتراه يغضب لأبسط الامور بحجّة انه صائم!

وهذا التصرف يفقد الصيام الهدف الذي جاء من اجله وهو الوصول الى التقوى كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). ومن صفات المتقي ان يكون حليماً لا يغضب لأبسط الامور.

5ـ عدم الحضور للصلاة في المساجد: فبدلاً من ان يكون الحضور في المسجد في ايام شهر رمضان اكثر من غيره من الايام ترى البعض وللأسف يعزف عن الحضور للصلاة في المسجد وخصوصاً صلاة الظهر والعصر.

في حين يفترض ان تكون المساجد عامرة بالمصلّين خلال الشهر الكريم، الامام علي عليه السلام يقول (الجلوس في المسجد احب اليّ من الجلوس في الجنة لأن الجلوس في الجنة فيه رضى نفسي والجلوس في المسجد فيه رضى ربي) فالإنسان المؤمن عليه دائماً ان يبحث عن رضا الله تعالى.

أما السلوكيات الحسنة في شهر رمضان المبارك فنذكر منها:

1ـ تلاوة القرآن.

2ـ الاهتمام بالفقراء.

3ـ الاقبال على صلاة الجماعة.

4ـ تبادل اطباق الطعام وغيرها من العادات الجيدة والمحببة لدى الجميع.

5-تبادل الزيارات وصلة الرحم التي يؤجر فيها الصائم أجر غير محدود..

سلوكيات خاطئة..

الاستشارية في مركز الارشاد الاسري، ضحى العوادي زادت" ان السلوكيات الخاطئة في شهر رمضان المبارك تتمثل في:

1-السهر: نجد ان بعض الافراد يتجمعون من اجل اللهو والسهر غير النافع من اجل متابعة بعض البرامج التي لا فائدة منها او اللعب او السهر على برامج التواصل الاجتماعي، وبالتالي تضيع الفرائض بالنهار أو تتأخر عن وقتها، لذلك على الفرد المسلم ان يعمل جاهداً للتخلص من هذه العادة، فإما السهر من اجل تأدية اعمال الشهر المبارك او النوم فهو خير من اللهو.

2-كثرة النوم: يجب على المسلم أن لا يقضي نهار رمضان بكثرة النوم بل يقضيه بقراءة القرآن، والتسبيح، وكثرة الذكر، والاستغفار, فضلاً عن الاعمال المحببة الاخرى.

3-تضييع الوقت: عادة ما تجتمع النساء في المطبخ ليحضّرنَ الافطار وهكذا يمضي وقت العصر لتبدأ النساء بتحضير المائدة, وهنا الى ضرورة عدم الاستغراق وتضييع الوقت اكثر من اللازم في إعداد الطعام بل يجب تخصيص وقت مناسب وكافي لقراءة القرآن وأداء المستحبات الاخرى..

المغتربون وشهر رمضان..

المغترِب اسماعيل خليل ابراهيم، رب أسرة تتكون من 5 أفراد، تحدثَ عن ارهاصات الصيام في دول المهجَر قائلاً" بالنسبة لأوقات الصيام في بعض البلدان الغربية فهي طويلة جداً وتصل ما بين 20 الى 22 ساعة في اليوم، كما ان اجواء رمضان في بلاد الغرب تختلف كثيرا فهي ليست كما في بلاد الشرق التي لها خصوصية وجمالية في هذا الشهر الكريم، لذا نرى الجاليات الاسلامية قبل هذا الشهر تخطط للسفر الى بلدانها، ليكونوا وسط عوائلهم وأقاربهم ويعيشون اجواء شهر رمضان العبادية والقدسية، وبالخصوص في ليالي القدر العظيمة وقضاء بعض اوقاته في اروقة العتبات المقدسة للأئمة الاطهار.

وأضاف اسماعيل" اما الذين لا يستطيعون السفر الى بلدانهم بسبب العمل والدراسة فالبعض يشارك بحضور البرامج المتواضعة التي تقيمها المراكز الاسلامية، مثل دورة ختم القرآن وقيام صلاة الجماعة، ولكن يبقى الحضور ليس بالمستوى المطلوب خصوصاً اذا كانت ايام هذا الشهر في فصل الصيف، التي فيها صلاة المغرب والإفطار تصل الى الساعة الحادية عشر ليلاً.

وتبقى اجواء هذا الشهر المبارك في بلاد الغرب باهتة باردة كالثلوج التي تغطي شوارعها وأبنيتها أشهر عديدة، وتتصدر بعض معاناة الصيام بطول ساعات النهار بالنسبة للأطفال المكلّفين، بالإضافة الى اعتراض بعض ادارات المدارس ومناقشة صيامهم مع ذويهم لأنهم يعتقدون ان امتناع الطفل عن تناول الطعام والشراب لساعات طويلة يؤثر على استيعابه للمواد الدراسية، وكذلك يعتقدون ان هناك حيف عليهم، وهذا لا يتوقف على الاطفال بل يشمل حتى بعض العاملين في الشركات الخدمية على سبيل المثال سواق النقل العام.

وتابع" هناك ايضا قسم من الشباب المغترب توجَّه اليهم اسئلة واعتراضات من أقرانهم الطلبة حول الجدوى من امتناعهم عن الاكل والشرب، ويبقى الشاب متحيّر في الرد لعدم معرفته بفلسفة شهر رمضان، لأنه اخذ يمارس بعض الطقوس الدينية والتعبّدية كما يراه في محيطه العائلي وهو يجهل الكثير عنها..

ورغم معرفة المسلمين بقدسية هذا الشهر المبارك والذي جاء ذكره في القرآن الكريم بقوله تعالى: (...كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.) وما جاء على لسان نبيّنا الكريم من أحاديث شريفة تبيّن فضل هذا الشهر بأيامه ولياليه وساعاته، وما فيه من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، لكن نرى أشخاصاً وللأسف الشديد يمارسون بعض السلوكيات الخاطئة جهلاً او عمداً او سوء توفيق، نذكر بعضاً منها:

ـ التجاهر بالإفطار وعدم مراعاة الجو العام لشهر رمضان، فترى البعض يأكل او يشرب او يدخن في الاماكن العامة ويتجاهل الآخرين غير مكترث بالأحكام الشرعية الواردة بهذا الخصوص.

ـ نجد (بعض) الشباب وخلال هذا الشهر المبارك فقط يقفون لأداء الصلاة وذلك لقبول صيامهم، كما هو حالهم في شهر محرم الحرام يشاركون في الشعائر الحسينية ومسيرة الاربعين لكن لا تجده يؤدي فريضة الصلاة.

ـ جهلِ البعض، أن الصيام هو صيام الجوارح كلها وليس فقط صيام جارحة واحدة وهي الامتناع عن الاكل والشرب، فنرى البعض لا يبالي في الكذب او النظر الى المحرمات او فعل بعض المنكرات، وبالتالي صيامه لا يُقبل وليس له إلا الجوع والعطش.

ـ بعض الذين يؤدون فريضة الصيام لا يهتمون بأداء المستحبات، وتراهم يضيعون وقتهم بمتابعة التلفزيون او الجلوس لساعات طويلة مع الاصدقاء او مواقع التواصل الاجتماعي.

ولو تقصينا لوجدنا الكثير من الممارسات الخاطئة التي تمارس في هذا الشهر المبارك وفي غيره، فتجد الكثير يذهب رمضان ويأتي آخر دون ان يستفيد من الدروس والعبر لهذا الشهر الكريم وما أكثرها..