موقف الإمام علي (عليه السلام) من التكفير والعنف (الخوارج مثالا)

يمثّل الإمام علي (عليه السلام) لعموم المسلمين سلطة دينية وروحية وفقهية عليا، فهو ابن عم الرسول المصطفى وربيبه الذي نشأ في حجره، وهو الفدائي الذي افتداه بروحه حينما عزمت قريش على اغتياله، وهو حامل راية الإسلام في غزواته الأولى ومجندل أعدائه من الكفرة والمشركين، فضلا عن كونه الخليفة والإمام المنتخب من عموم المسلمين بعد أن وصلت حالة الدولة الإسلامية إلى مستوى لا تحسد عليه زمن الخليفة الثالث. 

ولذا، فإن أقوال هذا الإمام الفذ وسلوكه كانت امتدادا لأقوال الرسول وسلوكياته في التعامل مع الأحداث والوقائع التي عصفت بالإسلام والمسلمين أو تلك التي استجدت في حياتهم فاختلفوا في تأويلها.
وكانت فتنة الخوارج من أشد الفتن التي واجهت المجتمع الإسلامي ودولته الفتية في عصر خلافة أمير المؤمنين في النصف الأول من القرن الهجري الأول، وقد كفّر هؤلاء الخارجين على نظام دولته إماما عظيما كانوا يدركون منزلته من رسول الله، وكانوا يعرفون قيمة السلطة الدينية والفقهية التي يتمتع بها بين عموم الناس، فكيف كان ردّ الإمام على هؤلاء المنحرفين التكفيريين؟ وما هي طبيعة هذا الرد؟
ومن المعروف أن التهمة التي ساقها الخوارج للإمام كانت تتمثّل برفضه التوبة عن قبول التحكيم في معركة صفين المشهورة؛ مما عدّوا ذلك معصية كبيرة، وقد كتب الخوارج رسالة لأمير المؤمنين مفادها: ( أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك؛ فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء.... إن الله لا يحب الخائنين) وحينما رفض الإمام دعوتهم لأنه عقد عهدا أجبروه عليه هم، وعليه الالتزام به مع خصومه في صفين كما تنص قواعد المواثيق الإسلامية، فما كان منهم حينذاك إلا الخروج على الإمام ودولته ونظامه السياسي وتهديد كل الناس المتمتعين بحماية هذه الدولة وتعريض حياتهم ودمائهم للخطر.
وقد نقلت لنا كتب التاريخ أحداثا مفجعة وصورا مأساوية من استهتار الخوارج بالقيم وهتكهم للحرمات واستباحتهم لدماء الأطفال والذراري دون وازع من خوف أو من ورع، وفي مقابل كل ما فعلوه فإن الإمام علي وقف كثيرا ليحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن علّهم يعودون إلى حضيرة الدين ويفيئون إلى رشدهم بعد ظلم وغيّ، وكان ابن عباس وصعصعة بن صوحان وسواهم من أبرز رجالات الإمام الذين دخلوا في حوار عقائدي وفقهي مع الخوارج مستنيرين بتعاليم الإمام وبوصاياه الإنسانية والأخلاقية.
ولم يستخدم الإمام علي مع هؤلاء الأوغاد أية وسائل قمعية، بل عمل على محاصرة هذه الفتنة ومنعها من الانتشار في الأمصار الإسلامية الأخرى التي كانت بيد خصومه كبلاد الشام التي كانت بعهدة معاوية، وقد كان كثيرا ما يتوجه إليهم بالنصح والإرشاد فيخاطبهم - كما ورد في نهج البلاغة- قائلا: ( كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا) في حين قال لهم في موضع آخر من الكتاب نفسه: ( فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي وتأخذونهم بخطئي وتكفرونهم بذنوبي، وسيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب)
وكان(عليه السلام) لا يعرف اليأس في التحاور مع هؤلاء المارقين، لكنهم كانوا مصرّين على التمادي في غيهم إلى حدّ التهديد باستخدام السيف واستخدام العدوان للوصول إلى أهدافهم الدنيئة، ومع كلّ هذا رفض الإمام علي أن يكفّر هؤلاء، بل كان يعترف بإسلامهم ويعاملهم على وفق هذا المبدأ، وقد نقلت لنا المصادر التاريخية أن الإمام سئُل عن أهل النهروان إن كانوا كفارا، فكان ردّه عليهم:(من الكفر فرّوا، قيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وهؤلاء تحقرون صلاتكم بجانب صلاتهم... قيل: ماذا نقول فيهم؟ قال: قومٌ تأوّلوا فأخطأوا).
وقد كان الإمام على قناعة تامة بعدم تكفير هؤلاء مع فساد معتقداتهم، لا لشيء سوى لكونه عالما بإسلامهم بعد نطقهم الشهادتين حتى لو كانوا بغاة ظالمين، فهو القائل فيهم: ( إخوان لنا بغوا علينا ). ولذلك لم يبدأ بقتالهم إلا بعدما علم بأمر تسلُّلهم وخروجهم إلى النَّهروان، وحينها لم ييأس من إمكانية عودتهم للهدي والرشاد فأرسل إليهم من يذكرهم الله، ويدعوهم إلى الطاعة، فأبوا، ولم يغير سياسته القائمة على ألاَّ يبدأهم بالقتال إلا إذا بدؤوه، وظلَّ على ذلك، مع أنه بلغه قبل توجههم للحرب: أنَّ بعضَهم سفك دم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب وزوجه دون وجه حق، فضلا عن اعتدائهم على حقوق الآخرين وعلى دمائهم التي صانها دين الإسلام الحنيف، وهو ممّا يُعدّ بمثابة إعلان الحرب. وهنا يضرب الإمام مثلا رائعا في ضرورة التعايش السلمي واحترام معتقدات الآخرين وآرائهم حتى لو كانت مختلفة عن معتقد الدولة بشرط أن لا تقود هذه الأفكار والمعتقدات إلى العدوان والبغي وسفك الدم الذي حرّم الله حينها لا يبقى أمام الحاكم الشرعي من خيار سوى دفع هذا الاعتداء بالسبل والإمكانيات المتاحة دفعا للضرر والشرور والفساد، وهو ما تولّاه الإمام بأحسن وجه في ساحة المعركة التي لم يخدعهم فيها ولم يباغتهم، وإنما ترك لهم حرية الانسحاب من هذه المعركة بالشروط السابقة، وقد انسحبت جماعة كبيرة منهم قبل بدء المعركة بعد سماعهم حجج الإمام وأدلته على ضلالهم وكفرهم، أما المتعصبون منهم فقد لقوا حتفهم الذي يستحقون بعد أن أعيت الوسائل والحيل.