المبادرات الإسلامية المسيحية.. المباهلة نموذجاً

زينب عبد الرحيم

تمثل قضية المباهلة من القضايا المهمة كونها من أولى المبادرات بين الإسلام والمسيحية، وقد أشار لها القرآن الكريم وفاض عنها الحديث في كتب التاريخ، وهنا يمكن أن نسلط الضوء على القضية بخلاصة وإيجاز، ما يمثل جزءا مهما من الرؤية الإسلامية للسيد المسيح ولأتباعه من المؤمنين به، جاء في القرآن الكريم:

"إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ  وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ  وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ  فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)".

وهنا لا بد من وضع توضيحات وتعريف لقضية المباهلة وأبرز محاورها الأساسية ونتائجها وأبعادها، حيث أن قضية المباهلة هي عنوان لما وقع بين الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم ونصارى نجران إثر محاورة دارت بينهما، فبعد أن أصرّوا على رأيهم دعاهم رسول الله (ص) إلى المباهلة والمقصود منها الدعاء بإنزال لعنة الله على الكاذب من الطرفَين، وقد نزلت الآيات الكريمة من سورية آل عمران للحديث عن القضية.

وقد اصطحب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) معه في يوم المباهلة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابنته فاطمة عليها السلام، والإمام الحسن بن علي (عليه السلام) والإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، وکانت الواقعة في يوم 24 ذي الحجة سنة 9 هـ، وهناك من ذهب إلى وقوعها في 25 ذي الحجة.

المباهلة في اللغة

(المُباهَلة) في الأصل من مادة (بَهْل) بمعنى إطلاق وفكّ القيد عن الشيء وبذلك يقال للحيوان الطلق حيث لا توضع محالبها في كيس كي يستطيع وليدها أن يرضع بسهولة، يقال له: (باهل)، وتستعمل بمعنی اللعن أيضا، يقول أهل اللغة: المُباهَلة المُلاعَنة، مفاعَلةٌ من البُهْلة وهي اللَعنة، و«بهله الله» لعنه وأبعده من رحمته.

وقد أجمع المفسرون من الفريقين على أن آيات المباهلة نزلت في وفد نجران حينما قالوا لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) هل رأيت ولداً من غير ذكر غير عيسى (ع) فهو أحد الأقانيم الثلاثة، فنزلت: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فقرأها رسول الله عليهم ولمّا أصروا بأنّ عيسى (ع) أحد الأقانيم الثلاثة دعاهم رسول الله إلى المباهلة.

فلمّا كان موعدها جاء النّبي (ص) ومعه علي (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وفاطمة (ع)، وخرج النصارى يتقدمهم اسقفهم، فلمّا رأوا صدق النّبي (ص) وأنّه قد أقبل بخاصّة أهله أحجموا عن المباهلة، وقالوا: إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به، فصالحهم.

تاريخ المباهلة

ذكر الشيخ المفيد أنّ المباهلة وقعت قبل حجة الوداع (السنة التاسعة للهجرة)، فيما اختلف الباحثون أنّ المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة أم وقعت في الحادي والعشرين من الشهر نفسه، وذهب الشيخ الأنصاري - وهو المشهور - أنها حدثت في يوم الرابع والعشرون من ذي الحجة، ويؤيده الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان حيث ذكر مستحبات وأعمال يوم الـ 24 من ذي الحجّة؛ علماً أن الاختلاف في تاريخ وقوعها لا يضر مع الاتفاق على أًصلها.

شخصيات المباهلة

من المتفق عليه بين المؤرخين والمفسرين والباحثين أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج للمباهلة ومعه علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

أحداث المباهلة

لمّا كان اليوم التالي للمحاورة التي وقعت بين النبي الأكرم وبين النصارى، جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) آخذاً بيد علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن عليه السلام والحسين عليه السلام بين يديه يمشيان وفاطمة (عليها السلام) تمشي خلفه، وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم، فلمّا رأى النّبيَّ (ص) قد أقبل بمَن معه سأل عنهم، فقيل له:

هذا ابن عمّه وزوج ابنته، وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي، وهذه ابنته فاطمة وهي أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدّم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فجثا على ركبتيه.

قال أبو حارثة الأسقف: جثا - والله - كما جثا الأنبياء للمباهلة، فرجع، ولم يقدم على المباهلة، فقال له أحد أصحابه: ادنُ يا أبا حارثة للمباهلة! فقال: لا، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل - والله - علينا حول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء، فقال الأسقف: يا أبا القاسم! إنا لا نباهلك، ولكن نصالحك، فصالحنا على ما ينهض به، فصالحهم رسول الله (ص) وكتب لهم بذلك كتاباً.

وروي أن الأسقف قال لهم:

يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

في واقعة المباهلة يجب الإشارة إلى عدد من الاستنتاجات:

1.     كان يمكن للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يباهل وحده لكن مشيئة الله اقتضت ان يخرج للمباهلة ومعه أهل بيته ليزداد المسلمون ايمانا ويقينا وليدركوا مقام أهل بيته وشأنهم عند الله سبحانه وتعالى.

2.     قِس نصارى نجران وفي لحظة بصيرة تهيب المضي في المباهلة ونصح قومه بعدم المباهلة لأنه رأى؛ أو بالأحرى شاء الله له أن يرى؛ نور تلك الوجوه، فقال: إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا عن مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا.

3.     واقعة المباهلة لم تكن تفصيلا بسيطا في تاريخ الدعوة الإسلامية ولم تكن للحجاج الديني فحسب بل كانت إحدى الإشارات الكبرى حول الإمامة.

وينبغي هنا التأكيد على عدد من النقاط:

1.     ذكرت قضية المباهلة في الكثير من المصادر التاريخية المتفق عليها بين المسلمين ولذلك فهي تمثل حدثا تاريخيا لا يشك المؤرخون في صحة وقوعه..

2.     اختيار شخصيات المباهلة وهم النبي الأكرم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لها بعد كبير، وهناك العديد من النصوص والأحاديث عن رسول الله حول أهمية الاختيار الإلهي لهذه الشخصيات وبآية من القرآن الكريم..

3.     هذا الحدث يمثل امتدادا تاريخيا لأحداث ومواقف أخرى أكد فيها رسول الله على أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم المحوري في الإسلام، الإسلام الذي يمثل دين التوحيد الشامل لكل البشرية، مما يجعل الإيمان بأهل البيت عليهم السلام، ركنا من أركان الدين التوحيدي.

4.     إن دراسة كل مفردة من مفردات آية المباهلة، والتوصيفات التي أطلقت على كل شخصية من الشخصيات التي حضرتها، توصل إلى معطيات ونتائج شديدة الأهمية، حول موقعية كل شخصية من الشخصيات حسب الوصف القرآني، (انفسنا) و (نساءنا) و(أبناءنا)، وهي مفاهيم تنعكس بشكل مباشر على قضايا عقائدية أساسية.

5.     لا بدّ من التأكيد على دور السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام الكبير في هذا الحدث، وهو يمثل حضور المرأة العظيمة ومشاركتها في هذا الحدث، كما كان للسيدة مريم العذراء دورها الكبير في دعوة السيد المسيح (عليه السلام).

6.     يعكس الموضوع مفهوم الجدل والحوار بين الأديان ويستخلص معطيات لتشكيل طبيعة العلاقة بين الاديان.

7.     ينبغي اعتبار قضية المباهلة حدثا له صدى كبير في التاريخ، ما يستدعي المزيد من الدراسات والتحليلات لهذا الموضوع تبقى مفتوحة لعمل بحثي وأكاديمي خاص.

الصورة: صلاح السبّاح