ظاهرة العزوف عن القراءة وعلاقتها بأزمة الوعي الجمعي

د. اماني فارس ابو مرّة

لا يكمن سرّ تقدّم الأمم في ما تمتلكه من موارد اقتصاديّة فحسب، إنّما في ما لديها من موارد بشرية واعية، فالإنسان الواعي هو الذي يعوّل عليه في تقدّم وتطوّر المجتمعات، لأنّه هو المفكر، هو من يملك العقل الذي مُيّز به عن سائر المخلوقات، وهو من يقوم بالجهد والعمل  لتحقيق الازدهار الفكري والعلمي، ّوالتطور الصناعي والولوج في عصر العلم والمعلومات.

وهذا الوعي الفكري لا يتحقق إلا بفعل القراءة، فهي غذاء للعقل، ونور للبصيرة، هي ثورة على الجهل، وثراء بالمعرفة والفكرِ، لذلك نجد أنّ المجتمعات المتقدّمة هي المجتمعات القارئة. وما تعاني منه مجتمعاتنا العربيّة من تخلّف علمي، وتأخّر حضاري وتراجع اقتصادي، هو بسبب عزوفها عن القراءة التي تعدّ السّبيل لكلّ معرفة،  لذلك من الواجب غرس الرّغبة في القراءة بين أفرادها، وتحفيز الاطلاع الذّاتي المستمر لديهم، بغية مواكبة الحضارات، لكي لا تنسحق مجتمعاتنا في حال تأخرها عن اللحاق بحافلة التقدّم، وبغية الوصول  إلى مرحلة التفوّق كغيرها من المجتمعات القارئة التي تولي اهتماماً كبيرًا بالقراءة وتعلو وتسمو بها.

وتبعاً لتقرير التنمية البشرية العربي، الصّادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإنّ نسبة ما يقرأه الفرد العربي في العام، هي ست دقائق فقط، ليتبيّن أنّ القراءة ليست من أولوياته بل من آخر اهتماماته!!

ولا بدّ من الوقوف عند  فوائد القراءة والمطالعة الكثيرة والتي تتمثّل بأنّها:

  • وسيلة للتسلية والمتعة والمنفعة:

حيث يملك الانسان خلال يومه أوقات فراغ كثيرة، لكنّه لا يستثمر هذا الوقت بما ينفعه، ويقدّم له المتعة والتسلية والفائدة في وقت واحد، فالقراءة عالم واسع تجعلنا نسافرعبر الخيال إلى أماكن، ربّما لا نستطيع في الواقع الذهاب إليها، وكما يُقال: "بإمكانك أن تشعر بصقيع موسكو، وتشم رائحة زهور أمستردام، وروائح التوابل الهندية في بومباي، وتتجاذب أطراف الحديث مع حكيم صيني.. بإمكانك أن تفعل كل هذه الأشياء وأكثر، عبر شيء واحد هو القراءة، فالذي لا يقرأ لا يرى الحياة بشكل جيد".

وبدلاً من أن يملأ الفرد فراغ وقته بهوامش الأمور، عليه أن يملأها بما يحقّق له المتعة المغمسة بالمنفعة، كالقراءة مثلًا أثناء ذهابه في الحافلة أو جلوسه في حديقة أو مقهى.

  • تنمية مهارات التفكير:

 القراءة المستمرّة تحفزّ العقل على العمل، وتفجّر فيه الكثير من التساؤلات التي بدورها تدفع الفرد إلى التفكيروتجعل منه كائنًا حيويًا، وإنّ الأهم من اكتساب المعارف في الحقيقة هو كيفية استخدامها، وما يمكن للإنسان أن يفعل من خلالها في رحلة الحياة.

  • تنشيط الذّاكرة:

لا يتوقف دور القراءة عند اكتساب الخبرات والمعلومات فقط، بل تعزز من تنشيط الذاكرة، فكثرة القراءة واستمراريتها يساعد في تقوية الدماغ وحفظه للمعلومات، كما أنّها تحدّ من احتمالية التعرّض لفقدان في الذاكرة.

  • تنمية مهارات التّعبير والقدرة على التواصل مع الآخر:

إن ما يُكتسب بفعل القراءة يختلف تماما عن ما يتم تلقينه للفرد في المدارس، أو ما يكتسبه من المجتمع، وهناك فرق كبير بين الانسان المتعلّم الذي لا يعرف إلّا ما تعلّمه، والذي يظنّ أنّ ما وصل إليه من شهادة دراسية يكفيه في مسيرته، غير آبه بتطوير ذاته وتفكيره،وبين الانسان المثقّف واسع الأفق غير محدود التفكير.

فالقراءة تنمي مهارات التعبير، و تساهم في تعزيز المقدرة على التواصل مع الآخر، بعيدًا من الخجل والانطوائية.

  • الانفتاح على الثقافات العالمية:

مما يزيد من وعي الفرد ومن تقبّله للآخر، وعلمه بأنّه ليس الوحيد  على هذا الكوكب وليست ثقافته ومعتقداته فقط هي السائدة، فيضع حدًا لغروره الذي لا يجلب له سوى هدم الذات بدلًا من بنائها، ويدفعه ذلك إلى إعادة التفكير، ووضع أفكاره موضع الشّك والفحص، بالإضافة إلى إعادة إنتاج الوعي.

  • الإثراء اللغوي والإبداع:

القراءة تساعد الإنسان على تحصيل المعرفة، وجمع المفردات وزيادة مخزون المصطلحات، وهذا ما يعزّز ثقته بنفسه، ويساعده في صياغة الجمل والعبارات وتعامله مع من من حوله سواء في المنزل أو في العمل كما تساهم في تحسين مهارة الكتابة لديه كونه يطلع على أساليب الكتّاب والكتابة وإيقاعاتها وغير ذلك مما يترك أثرًا فيه، فتدفعه لتفجير طاقاته الابداعية وبذلك يُخلق منه مبدعًا.

  • تخفيف التوتر:

 تمنح القراءة القارئ نوعًا من الاسترخاء الذي يخفف من حدة التوتر والضغط، حيث توصّل الباحثون إلى أنّ القراءة تخفّف من حدّة التوتر بنسبة 68%، و.

  • خلق مجتمع قارئ:

القراءة تخلق مجتمعًا قارئًا، فالمطالعة والبحث الذاتي عن المعلومات، والاهتمام بمصادرها يساهم في بناء استراتيجية للفهم، خاصّة أننا في عصر يملك فيه الفرد العالم بين يديه، من خلال شاشة صغيرة مما يسهّل عليه تثقيف نفسه في عالم التثقيف الذاتي، بشرط أن يعرف كيف يوجّه اهتماماته بغية تحقيق ذاته وبناء شخصيّته، لا أن توجهه هي وتعبث بعقله وحياته . وكما يقول مصطفى صادق الرافعي : "ليكن غرضك من القراءة اكتساب قريحة مستقلّة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار، فكل كتاب يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرأه".

ونستطيع أن نستشف من خلال ما ذكرناه مقدّمًا الآثار السلبيّة والوخيمة للعزوف عن القراءة، وما تخلّفه من أزمة وعي جمعي، و يمكننا أن نعي مدى خطورة ثقافة التلقين والحفظ، واعتماد الفرد عليها دون أن يُقدم أي جهد يذكر، ودون أي رغبة أو فضول في معرفة إن كانت هذه المعلومات التي يمضغها قد بنيت على أساسٍ صحيح ومصدر موثوق أم لا.

فترك القراءة يولّد أفرادًا أميين، ولا نقصد بالأميّة من لا يعرف القراءة والكتابة، بل الأُمي فاقد المعرفة وشغف الاطلاع، في كل شيء و في مختلف جوانب الحياة. فإهمالها يودي بالفرد إلى هوة الجهل والظلام، و يؤدي إلى تدجين العقل وأكسدته وتسطيحه، فيصبح  الإنسان في خواء فكري وعلمي وعقلي.

وتتمثّل هذه الآثار التي تنعكس سلبًا على الفرد والمجتمع والأمّة بـ:

  • انعدام  الفكر النقدي، فتغفل المجتمعات عن عيوبها ولا تدركها، ولا تعي أنّ ثقافة التلقين هي ما يعزز الخنوع والخضوع وهي من أبرز وسائل القمع.
  • التطرّف نتيجة الجهل، والغلو فيه، و تعصّب الفرد لأفكاره ومعتقداته، حيث لا يتقبّل الآخر ولا يحترم آراءه،  ولا يعي أن حريته تتوقف عند حرية الآخرين، إضافة إلى ظنّه دائمًا أنّ ما يحمله من أفكار هو الحقيقة المطلقة.
  • الانغلاق الفكري والتقوقع على الذات والانطوائية وتحيّز الفرد إلى جهات معيّنة، والتقرّب من مَن يوافقه الرأي والتمسّك بهذ الآراء والأفكار بغض النظر عن مدى صحتها.
  • السطحية في المعرفة، بسبب الاعتماد على أسلوب التلقي في أخذ المعلومات، حيث يعتمد البعض على المعلومات الجاهزة التي تقدّمها الوسائل  المختلفة وخاصّة ًالانترنت دون تعب.

ومن الحلول التي يمكن طرحها في ظل تفشّي هذه الظاهرة:

مشاركة الآباء والأمهات في توجيه أبنائهم وتثقيفهم، واستثمار وقتهم في القراءة الجّادة، وأن يكونوا قدوة لهم، وأفضل وسيلة لتشجيعم على المطالعة والقراءة هي مشاهدة الأهل يطالعون الكتب بشكل مستمر، فالقراءة فعل مكتسب من الأسرة أولًا و من المهم جدًا وجود مكتبة في المنزل.

وتضافر جهود الأساتذة في المدارس لكي يخرج جيلًا محبًّا وعاشقًا للقراءة، يتفانى في سبيل العلم والمعرفة وتخصيص وقت للمطالعة في مكتبة المدرسة بالإضافة إلى الاهتمام بها والسعي دائما إلى احتوائها على كتب تخدم كافة الأعمار، وإرساء ثقافة البحث والتساؤل والتفكير، فكما قال ألبرت أينشتاين: قيمة التعليم ليست في معرفة أكبر قدر من المعلومات والحقائق، بل تدريب العقل على التفكير.

ومن الحلول أيضا للحد من ظاهرة العزوف عن القراءة والسعي للترغيب بها، الاهتمام ببناء المكتبات وتسهيل استعارة الكتب واقتنائها، إضافة إلى وجود مكتبات في الأماكن العامة، ودعم المنتديات والمبادرات التي تشجّع القراءة وتهدف إلى جعلها ظاهرة منتشرة بين أفراد المجتمع.

فالقراءة إذًا تكوّن الخبرات، والقدرات، وتساعد الفرد على أن يتبع سياسة النقاش والحوار، وأن يكون مشاركًا في بناء ذاته أولًا، وبناء المجتمع ثانيًا، فيعرض أفكاره وقناعاته بوعي وإدراك، ويمتلك لغة النقد والشك والتساؤل والتجريد، والبحث عن المعرفة أينما وجدت، ويُعمل عقله الذي ساهمت الوسائل التعليمية التقليدية في تدجينه وإسكاته عبر تقنية التلقين، وتقديم المعلومات جاهزة للطالب دون أدنى معرفة من أين أتت ولماذا، ودون أي ّجهد في البحث عن مصدرها. بدل أن يكون سعيها يتجّة نحو تنيمة العقل البشري وتكوين وعيه  الذي سيكون موردًا للوصول إلى الرقي والتقدّم، فالعزوف عن القراءة لا يساهم إلا بتسطيح العقول، وقتل العقلية العلمية التي هي أساس مواكبة الحضارات، خاصّة في ظلّ عصرنا الرّاهن، عصر المعلومات والاكتشافات والتطوّر المستمر، القراءة والتقدّم متلازمان ومتناسبان طرديًّا.