عهد الإمام الحسن (عليه السلام) الحلقة 5 / خيانات الجيش

 

وبعد أن تحرك الإمام الحسن بالناس ووصل بهم معسكر المدائن بدأ يعدّ الفرق ويجهز الصفوف لخوض الحرب، وفي هذه الأثناء وصلت رسالة مستعجلة من قيس بن سعد إلى الإمام جاء فيها (إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بإزاء مسكن، وإن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن العباس، يرغبه في المسير إليه، وضمن له ألف ألف درهم يعجل له فيها النصف، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة، فانسلّ عبيد الله في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته...).

كانت هذه الرسالة تشكل الصدمة العنيفة والكبرى التي هزّت القوى المجنّدة في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وهذه الصدمة حدثت بعد أن بث معاوية شائعة في أوساط جيش الإمام المرابط في الأنبار ومسكن، في رسالة بعثها معاوية إلى عبيد الله بن العباس قال فيها: (إن الحــــسن قــــد أرسلني في الصلح، وهــــو مسلّم الأمر إليّ فـــإن دخلت في طاعتي متــــبوعاً، وإلا دخلت وأنت تابع).

ولقد قدم معاوية في رسالته الإغراءات المادية إلى عبيد الله بن العباس التي هي عبارة عن مائة ألف ديناراً يستلم نصفها حال وصوله إليه، والنصف الآخر في الكوفة بعد أن يدخلها معاوية للسيطرة على السلطة هذا إضافة إلى أن معاوية أخبر عبيد الله بأنه سيمنحه أحد كور الشام. وحينما وصلت هذه الرسالة من معاوية إلى عبيد الله بن العباس، جلس الأخير ينظر في ترغيبات معاوية، وراح يهيم بفكره المسند بشيطان الهوى إلى ما سيناله من أموال وقطائع وغاب عن ذهنه الهدف المقدس الذي جاء من أجله لمحاربة معاوية، فلم يخطر بباله عاقبة السوء التي تنتظره فآثر حب الذات والشهوات على هدفه الكبير.

وفي منتصف الليل سار عبيد الله على رأس ثمانية آلاف رجل، متخفياً صوب جبهة معاوية، فسلّم نفسه إليه مؤثراً إلحاد معاوية على إيمان إمامه الحسن (عليه السلام).

 

يقول اليعقوبي: (أنه ـ أي معاوية ـ أرسل عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته).

... تسلم قيس بن سعد قيادة الجيش في الأنبار ومسكن، فصلى بالناس ثم خطب فيها خطبة أراد فيها استعادة معنويات الجيش المنهارة، وتسوية ما جرى من شكوك وظنون في داخل أفراد الفرقة، من هول الفتق الذي سببه عبيد الله في الجيش. فقال قيس في خطبته: (أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل المولّه، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي (عليه السلام) البصرة (البصرة) فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال وأن هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطأة وترك ولده حتى قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع).

وبعد أن وصل خبر عبيد الله بن العباس إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، عمد بعدها الإمام (عليه السلام) إلى تعبئة الفراغ الذي خلّفه عبيد الله في جبهة الأنبار فوجه رجلاً آخر من كندة على رأس أربعة آلاف مقاتل وطلب منه الإمام (عليه السلام) أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيه الأوامر من الإمام (عليه السلام).

ثم سار هذا الرجل مع فرقته متوجهاً نحو الأنبار، فنزل بها يستعد لتنفيذ أوامر الإمام (عليه السلام)، ووصل خبره إلى معاوية يفيد بوصول فرقة عسكرية جديدة إلى الأنبار، فأرسل معاوية رسالة إغراء مماثلة إلى قائد هذه الفرقة وقال له فيها (إنك أن أقبلت إليّ أوّلك بعض كور الشام والجزيرة غير منفّس عليك).

كما أرفق معاوية مع رسالته هذه خمسمائة ألف درهم، فلما وصلت الرسالة إلى الكندي هاجت نفسه للقبول بإغراءات معاوية، والخضوع لترغيباته، فانسلّ ومائتا رجل باتجاه معسكر الشام، فترك فرقته دونما قيادة.

وعلم الإمام الحسن (عليه السلام) بخبر الكندي فقام وخطب في الناس وقال: (هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلاً آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي ما فعل صاحبه ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم).

ثم طلب الإمام (عليه السلام) رجلاً من مراد فسلّمه زمام القيادة العسكرية وأمدّه بأربعة آلاف رجل، وقبل أن يغادر المرادي المدائن، جاء إلى الإمام (عليه السلام) أمام جموع الناس وعلى مرأى ومسمع منهم وحلف بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال بأنه لن يفعل ما فعله من كان قبله من القادة العسكريين.

وسار المرادي مع كتيبته إلى الأنبار، فلمّا وصل، جاء خبره إلى معاوية فعاود الأخير الكرّة ثالثة وأرسل إلى المرادي يغريه ويرغبه في المسير إليه وأرفق بالرسالة خمسة آلاف درهم كما وعده إحدى كور الشام والجزيرة، ولما وصلت الرسالة إلى المرادي مالت به ريح الشهوات إلى معاوية، فسلك الطريق إليه تاركاً وراءه العهود والمواثيق والأيمان التي اقتطعها على نفسه للإمام الحسن (عليه السلام). ولما بلغ الخبر الإمام (عليه السلام) جاء إلى الناس وقال: (قد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنكم لا تفون لله بعهد وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم وصار إلى معاوية).

وأخيراً فما صمدت من الثلاثة فرق العسكرية التي بعث بها الإمام الحسن (عليه السلام) إلى جبهات القتال سوى المجموعة المتبقية من فرقة عبيد الله بن العباس والتي يبلغ عددها أربعة آلاف رجل وقد تسلم قيس بن سعد قيادة هذه البقية من الفرقة تلك.

المصدر: كتاب (الإمام الحسن... القائد والأسوة) للشيخ حسين سليمان سليمان