لِمَ الإصرار من الزهراء(عليها السلام) على فدك

قد يقول القائل إن الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة، ما الذي دعاها إلى أن تنهض وتنتفض على السلطة الفتيّة، وتواصل سعيها وتستمرّ جهودها في طلب حقوقها؟ وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأرض، مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علوّ النفس وسموّ المقام؟ وما الداعي إلى طلب لدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز، وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟
سنطرح هذا التصوّر الواهم على بعض الأجلاّء من علمائنا الأفذاذ لنرى رأيهم في ذلك:
 
يقول العلامة المجلسي (ره): 
قد يُشكل البعض في قضيّة إصرار الزهراء (عليها السلام) على مطالبتها فدكاً ويقول: إنّ طلب الحقّ والمبالغة فيه وإن لم يكن منافياً للعصمة لكن زهدها صلوات الله عليها وتركها للدنيا، وعدم اعتدادها بنعيمها ولذتها، وكمال عرفانها ويقينها بفناء الدنيا، وتوجّه نفسها القدسيّة وانصراف همّتها العالية دائماً إلى اللذات المعنويّة والدرجات الأخروية، لا تناسب مثل هذا الاهتمام في أمر فدك، والخروج إلى مجمع الناس، والمنازعة مع المنافقين في تحصيله.
والجواب عنه من وجهين: 
الأول: إنّ ذلك لم يكن حقاً مخصوصاً لها، بل كان أولادها البررة الكرام مشاركين لها فيه، فلم يكن يجوز لها المداهنة والمساهلة والمحاباة وعدم المبالاة في ذلك ليصير سبباً لتضييع حقوق جماعة من الأئمة الأعلام والأشراف الكرام. نعم لو كان مختصاً بها كان لها تركه والزهد فيه وعدم التأثر من فوته.
والثاني: إن تلك الأمور لم تكن لمحبّة فدك وحبّ الدنيا، بل كان الغرض إظهار ظلمهم وجورهم وكفرهم ونفاقهم، وهذا كان من أهمّ أمور الدين وأعظم الحقوق على المسلمين. ويؤيّده أنّها صلوات الله عليها صرّحت في خطبها بحقيقة القوم وبيّنت تكالبهم على حُطام الدنيا.
 
ويقول المحقق المتتبع السيد كاظم القزويني: 
ما الذي دفع بسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تتكلف هذا التكليف وتتجشم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها، وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل، وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟ هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع، ولإزاحة هذه الأوهام أقول:
أولاً: 
إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء، وجعلتها في ميزانية الدولة، (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون عليّ فقيراً حتى لا يلتفّ الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما بيّن الله الله (تبارك وتعالى) ذلك في قوله: «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7 المنافقون)»
ثانياً: 
لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات، بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد، وذكر الشيخ المجلسي عن (كشف المحجة) أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كلّ سنة، وفي رواية أخرى: سبعين ألف دينار. ولعلّ هذا الاختلاف في واردها بسبب اختلاف السنين. وعلى كلّ تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة لا يصحّ التغاضي عنها.
ثالثاً: 
إنها كانت تطالب من وراء المطالبة بفدك الخلافة والسلطة لزوجها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه، قال: سألت علي بن الفارقي مدرس مدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع لها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان مــــن غير حاجــــة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل.
لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأجل المطالبة بحقها. إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار، ولم تخرج وحدها إلى المسجد بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات، وسيدة المحجبات. كانت هذه النقاط مهمة جداً واستعدّ أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد، وأعلم امرأة في العالم كله.
 
ويقول الأستاذ باقر المقدسي: 
هناك مجموعة أهداف لتصلّب الزهراء (عليها السلام) في مواقفها:
أولاً: أرادت الزهراء (عليها السلام) استرجاع حقها المغصوب، وهذا أمر طبيعي لكلّ إنسان غُصب حقه أن يطالب به بالطرق المشروعة.
ثانياً: كان الحزب الحاكم قد استولى على جميع الحقوق السياسية والاقتصادية لبني هاشم، وألغى جميع امتيازاتهم المادية والمعنوية، فقد منعوا بني هاشم فدك والميراث والخمس ـ أي سهم ذوي القربى ـ واعتبروهم كسائر الناس.
وكان بنو هاشم وفي مقدمتهم عليّ (عليه السلام) لا يقدرون على المطالبة بحقوقهم المغصوبة بأنفسهم، فجعلت الزهراء من نفسها مطالبة بحقّ بني هاشم وحقّها، ومدافعة عنهم اعتماداً على فضلها وشرفها وقربها من رسول الله، واستناداً إلى أنوثتها حيث النساء أقدر من الرجال في بعض المواقف. ومعلوم أن الزهراء (عليها السلام) إذا استردت حقوقها استردت حينئذ حقوق بني هاشم معها.
ثالثاً: استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك فسح المجال أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب على أمره، والواقع أن فدك صارت تتمشى مع الخلافة جنباً إلى جنب، كما صار لها عنوان كبير وسعة في المعنى، فلم تبق فدك قرية زراعية محدودة بحدودها في عصر الرسول، بل صار معناها الخلافة والرقعة الإسلامية بكاملها.
ففدك تعبير ثان عن الخلافة الإسلامية، والزهراء جعلت فدكاً مقدمة للوصول إلى الخلافة، فأرادت استرداد الخلافة عن طريق استرداد فدك.
رابعاً: أرادت الزهراء (عليها السلام) بمنازعة أبي بكر إظهار حاله وحال أصحابه للناس، وكشفهم على حقيقتهم، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حي على بيّنة، وإلا فبضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجل قدراً وأعلى شأناً من أن تقلب الدنيا على أبي بكر حرصاً على الدنيا، ولا سيّما أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به، ولذا لم ينهها عليّ (عليه السلام) عن منازعة أبي بكر في فدك وهو القائل: (وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مكانها في غد جدث).
 
  ويقول المحقق الفاضل عبد الزهراء عثمان محمد: 
ربما يعترض البعض على موقف فاطمة فيقول: لماذا إذن تقف فاطمة هذا الموقف الصلب في مطالبتها بفدك، فلو لم يكن هناك هدف آخر تبتغيه من ورائه، لما طالبت هذه المطالبة الحقيقية به.
ولأجل أن نبرز الحقائق التي دفعت الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) للمطالبة بفدك نضع أمامنا النقاط الآتية:
إنها (عليها السلام) رأت أن تأميم فدك قد هيّأ لها فرصة ذهبيّة في الإدلاء برأيها حول الحكومة القائمة، وكان لابدّ لها أن تدلي بتصريحاتها أمام الجماهير، وقد هيأت لها قضية فدك هذه الملابسات المناسبة، فحضرت دار الحكومة في المسجد النبوي، وألقت بتصريحاتها التي لا تنطوي على أي لبس أو غموض.
تبيان أحقية عليّ (عليه السلام) في قيادة الأمة بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد تجلى ذلك في خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مسمع ومرأى من المسلمين وبضمنهم الحكومة الجديدة، فكان من بعض أقوالها: (أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟...) وقولها: (وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبسط والقبض...). حيث أوضحت أن علياً (عليه السلام) أعلم الناس بعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمعرفة الرسالة وأحكامها وقوانينها، وهو لذلك أحق برعاية شؤون الأمة التي صنعها الوحي المقدس.
كشف ألاعيب الحكومة الجديدة على الشرع المقدس، واجتهاداتهم التي لا علاقة لها بأهداف الرسالة.
وهذه النقاط الثلاث هي التي استهدفتها فاطمة (عليها السلام) في مطالبتها الحثيثة بفدك، ليس غير، وليس لها وراء ذلك هدف مادي رخيص، كما يعتقد البعض من مؤرّخي حياتها، فهي ـ لعمر الحق ـ قد تصرّفت ما من شأنه أن يحفظ الرسالة من شبح الانحراف الذي تنبّأت بوقوعه بعد انتخاب الحكومة الجديدة، فاتخذت من فدك خير فرصة لخدمة المبدأ، وإلقاء الحجة على الأمة تأدية للمسؤولية، ونصراً للرسالة، وحفظاً لبيضة الإسلام
============ 
المصدر: مجلة الروضة الحسينية /العدد 61